إسماعيل وأوجيني- كيف يقود الحكم الفردي إلى خراب الدول وإذلال الحكام.

المؤلف: د. سليمان صالح08.12.2025
إسماعيل وأوجيني- كيف يقود الحكم الفردي إلى خراب الدول وإذلال الحكام.

يستخلص المرء من صفحات التاريخ عبرًا جمّة، لعلّ أهمها أنّ الحكم الفردي المتسلّط هو أساس دمار الدول وتدهورها، وأنّ هذا النمط من الحكم، بقدر ما يمنح المستبدّ شعورًا زائفًا بالقوة، قد يقوده في نهاية المطاف إلى الذلّ والإهانة والسقوط المدوّي.

إنّ الطغاة، الذين تزهو نفوسهم بما يملكون من نفوذ وقدرة على قمع كل صوت مخالف، غالبًا ما يغفلون عن حقيقة أنّ هذا القمع ذاته قد يكون الشرارة التي تشعل فتيل نهايتهم.

تزخر سجلات الأمم بتجارب لا حصر لها، ولكن قصة الخديوي إسماعيل تمثّل مثالًا حيًا وشاهدًا قاطعًا على أنّ الدول تتردّى حينما ينفرد الحاكم بالسلطة، ويُطلق العنان لرغباته وشهواته دون حسيب أو رقيب. فعندما يتعاظم جبروت الحاكم الفرد، يضعف الشعب، وتتدهور الإدارة، ويتفاقم الفقر. إذ لا يوجد شخص واحد في هذا العالم يمتلك المعرفة والإحاطة بكل الأمور، ويستطيع اتخاذ قرارات صائبة بمفرده، دون استشارة أهل الخبرة والرأي.

لقد أدركت الدول المتقدّمة أنّ وجود معارضة بنّاءة هو من أهم دعائم القوة والاستقرار. فماذا كان سيحدث لو أنّ مصر شهدت معارضة رشيدة تفضح مساوئ قرارات الخديوي إسماعيل وتجبره على تعديل سلوكه، والتماس مشورة المتخصصين والعلماء، والتوقف عن الإنفاق الباذخ والتبذير المفرط؟!!

لذلك لم يتمكن إسماعيل المُغرم من إشباع تطلعاتها، فانصرفت عنه لتتزوج من الإمبراطور نابليون الثالث.

الإمبراطورة أوجيني

تُسلط حكاية الخديوي إسماعيل مع الإمبراطورة أوجيني الضوء على الدور المحوري الذي يمكن أن تلعبه الصحافة الحرّة في كشف النقاب عن الحياة الخاصة للأفراد الذين يشغلون مناصب المسؤولية. فهذه الحياة الخاصة قد تكون مدخلًا لتهديد الأمن القومي، وربما تؤدي إلى انهيار الدولة. يجب أن يكون حسن السيرة والسلوك من أهم المؤهلات التي يتمتع بها الحاكم لتولي مقاليد الحكم، فالشخص الذي تسيّره أهواؤه ونزواته دون التقيّد بالمبادئ والقيم الأخلاقية، غالبًا ما يدمر نفسه ووطنه.

تتفق معظم المصادر التاريخية على أنّ أوجيني كانت تتمتّع بجمال أخّاذ يسحر العقول، وذكاء فطري وطموح جموح يمكّنها من تحقيق أهدافها، وشغف كبير بالترف والسلطة والمظاهر الملكية.

لذلك لم يتمكن إسماعيل المشغوف من إشباع طموحاتها العريضة، فآثرت الابتعاد عنه والزواج من الإمبراطور نابليون الثالث.

كان نابليون الثالث قد عاد إلى فرنسا عام 1848 عقب سقوط الملك لويس فيليب وتحوّل فرنسا إلى جمهورية، فترشّح للرئاسة واستطاع الفوز في الانتخابات بناءً على برنامج يهدف إلى القضاء على الفقر في المجتمع الفرنسي، وتعزيز مكانة الكنيسة الكاثوليكية في المدارس الفرنسية استرضاءً للمتدينين.

بعد انتهاء ولايته الرئاسية، حاول تعديل الدستور ليتمكن من الترشح لفترة جديدة، لكن المجلس الدستوري رفض طلبه، فقام بانقلاب عسكري عام 1852 ونصّب نفسه إمبراطورًا، وحوّل النظام الفرنسي إلى نظام ملكي وراثي.

أدى ذلك إلى ازدياد الكراهية الشعبية له، والتشكيك في شرعية حكمه، لكنه لم يكترث بذلك، وانطلق في حكم البلاد كطاغية مستبد، فنفى المعارضين، وفرض رقابة صارمة على الصحافة، وتحكم في البرلمان ومنعه من مناقشة القضايا المصيرية للدولة.

واستغل نابليون الأموال والثروات التي تدفقت من المستعمرات، لا سيما الجزائر، لإعادة بناء باريس وإنشاء القصور الفاخرة والحدائق الغنّاء.

وقع نابليون الثالث في غرام أوجيني، لكن عائلته رفضت هذا الزواج لأنها كانت من عامة الشعب وليست فرنسية الأصل، ولكنه أصرّ على الزواج منها عام 1853، وشيّد قصر التويلري في باريس، الذي كان يُعدّ من أبرز معالم العاصمة الفرنسية في ذلك الوقت.

وأغدق نابليون على أوجيني مظاهر الترف والبذخ، حتى أنه أمر بأن لا ترتدي حذاءً إلا مرة واحدة فقط. وعلى الرغم من أنّ الشعب الفرنسي أحبّها في البداية لاعتبارها إحدى بنات الشعب، فإنّ كراهية الفرنسيين لها بدأت تتزايد بعد انتشار القصص عن إسرافها وتبذيرها وتحكمها في الإمبراطور، ممّا عرّضها لمحاولة اغتيال عام 1858 أثناء توجهها إلى دار الأوبرا.

فقد بات الشعب الفرنسي يشعر أنّ أوجيني هي التي تحكم فرنسا وتدير شؤونها السياسية، وأنّ نفوذها وسلطتها تجاوزا قدرة الإمبراطور، فهي الحاكم الفعلي لفرنسا.

أفقر مصر من أجلها

أما إسماعيل فقد عاد إلى مصر ليتولى الحكم بعد وفاة شقيقه وولي العهد أحمد رفعت في حادث مأساوي غامض، تكتنفه الكثير من الشكوك والريبة، فبعد حضور الأمير أحمد رفعت مأدبة عشاء في الإسكندرية بدعوة من عمه سعيد باشا، سقطت عربة القطار التي كان يستقلها في نهر النيل. فهل تعرّض الأمير لعملية اغتيال مدبّرة؟ ومن الذي خطط لهذه العملية؟ وهل هناك علاقة بين عملية الاغتيال ومعارضة الأمير أحمد رفعت لمشروع قناة السويس؟!!

عاشت الإمبراطورة أوجيني في مصر مع إسماعيل حياة مترفة وبذخًا فاحشًا، لكن مهما قدّم لها إسماعيل من مظاهر الثراء، فإنّ أوجيني كانت قد عاشت في باريس حياة أكثر فخامة ورخاء.

تلك تساؤلات يصعب الإجابة عنها بشكل قاطع، لكن إسماعيل تولى الحكم ولقّب بالخديوي، ولم يكتفِ بالزواج من أربع نساء، فظلّت أوجيني أسيرة خياله.

لذلك استغل إسماعيل فرصة افتتاح قناة السويس لتوجيه دعوة خاصة إلى أوجيني، واستعدادًا لقدومها أمر ببناء قصر الجزيرة الفخم ليكون مقرًا لإقامتها، واستعان بالكثير من المهندسين المهرة من أوروبا لتصميم القصر بأساليب تجمع بين فخامة قصر التويلري في باريس، الذي كانت تقيم فيه الإمبراطورة لكي تشعر أنها في بلدها، وجمال قصور الأندلس حيث ولدت وترعرعت. وقدّرت تكاليف القصر بـ 750 ألف جنيه، وهو ما يعادل مليارات الدولارات بمقاييس ذلك الزمان.

ثم أنشأ الخديوي أمام القصر حديقة الجزيرة الغنّاء، التي زُينت بأجمل وأندر أنواع الزهور التي تعشقها أوجيني.

حفل الافتتاح

شغل العالم في ذلك الوقت الحديث عن مظاهر البذخ والإسراف والتبذير المبالغ فيه في حفل افتتاح قناة السويس، وهناك الكثير من المراجع التي تحدثت عن هذا الحفل، ولكن ما يهمنا هنا هو الكيفية التي استقبل بها الخديوي إسماعيل الإمبراطورة أوجيني في بورسعيد، حيث بالغ في الترحيب بها والاحتفاء بها لدرجة تقلّل من قيمته كحاكم لمصر، ويمكن أن توحي بأنها هي من تحكم مصر، وأن الخديوي قد أهدر كرامته.

وكان من أبرز فعاليات حفل الافتتاح أوبرا عايدة الشهيرة، التي تنتهي بمشهد يقوم على دفن القائد راداميس حيًا في غرفة مظلمة، ولكن عايدة تنجح في التسلل إلى الغرفة، ويجلس العاشقان في الظلام ينتظران الموت. فما هي الرسالة التي أراد إسماعيل أن يبعث بها إلى العالم من خلال هذا المشهد؟!!

على ظهر حمار

عاشت الإمبراطورة أوجيني في مصر مع إسماعيل حياة مفعمة بالترف والرفاهية، لكن مهما قدّم لها إسماعيل من النعم، فإنّ أوجيني كانت قد ذاقت في باريس ألوانًا من النعيم أكثر فخامة وإبهارًا.

لذلك طلبت أوجيني من إسماعيل أن تركب حمارًا وتتجول به في أحياء القاهرة الشعبية، وأصرّ خديوي مصر على أن يصحبها في جولتها وهو يمتطي حمارًا! وبذلك بالغ إسماعيل في تحقير نفسه وإهانة كرامته.

لقد بدأت باريس تتناقل الأخبار عن علاقة الغرام الملتهبة التي تربط بين إسماعيل وأوجيني، وأنها قد شجعته على التمادي في هذه العلاقة، ممّا أثار غضب نابليون، وأرسل سفير فرنسا لينقل إليها أمر الإمبراطور بالعودة الفورية إلى فرنسا.

وأصرّ إسماعيل على أن يودّع أوجيني بأسلوب لا يُنسى، فأهدى لها غرفة نوم مصنوعة من الذهب الخالص، تتوسطها ياقوتة حمراء نُقشت عليها عبارة تؤكد أنه سيظل مغرمًا بها إلى الأبد!!

الثورة على أوجيني

عادت أوجيني إلى باريس التي أصبحت تختلف تمامًا عن تلك التي تركتها.

كان الإمبراطور نابليون قد أعلن الحرب على بروسيا، وعلى الرغم من أنه قد حشد جيشه واستخدم كل موارد فرنسا، فإنه قد مُني بهزيمة ساحقة في معركة سيدان التي أدت إلى حصار باريس. وعانى الشعب الفرنسي من الفقر المدقع والجوع القاتل حتى اضطر الفرنسيون إلى أكل لحوم الكلاب والقطط.

تفاقم استياء الشعب وسخطه على الإمبراطور نابليون وزوجته أوجيني، وتوجهت المظاهرات الغاضبة إلى قصر التويلري، واضطرت أوجيني إلى الفرار مع ابنها وهي في حالة يرثى لها، لا تملك شيئًا إلى إحدى القرى النائية في الريف الإنجليزي لتعيش سنوات طويلة تعيسة وحيدة بعد أن قتلت عصابة شريرة ابنها الغالي.

أما الإمبراطور نابليون الثالث فقد تجرّع مرارة الهزيمة والانكسار، وتمنى الموت الذي لم يحن في اللحظة التي كان بأمسّ الحاجة إليه. وظل يعاني من الفقر والذل والهوان والإهانة لمدة عامين حتى وافته المنية عام 1873 في لندن بعد خضوعه لعملية جراحية فاشلة.

وظل الشعب الفرنسي يكنّ الكراهية والاحتقار لهذا الإمبراطور وزوجته أوجيني.

نهاية إسماعيل

أما نهاية الخديوي إسماعيل فإنها لا تقلّ قسوة وبشاعة عن نهاية نابليون الثالث وأوجيني، فبعد أن أغرق مصر في بحور الديون، تفاقمت الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في البلاد، وعجزت مصر عن سداد الفوائد المستحقة، ممّا أدى إلى فرض الوصاية الأوروبية عليها.

لقد أدركت الدول الدائنة خطورة الأوضاع المتردية في مصر، وأنّ البلاد تعاني من أزمة مالية خانقة، لذلك تم تعيين وزير إنجليزي ووزير فرنسي في الحكومة المصرية للسيطرة على الأوضاع المالية والإدارية، لكن رئيس الوزراء شريف باشا اعترض بشدة على تدخل الوزيرين في الميزانية، فأقالهما الخديوي إسماعيل من منصبيهما. وأدى ذلك إلى زيادة عجز الحكومة المصرية عن تسديد الفوائد الباهظة للديون التي اقترضها إسماعيل.

لذلك طالبت الدول الأوروبية بعزله وتنصيب ابنه توفيق بدلًا منه، واضطر إسماعيل إلى مغادرة مصر ذليلًا مهانًا، تاركًا وطنه يواجه أطماع الإنجليز.

عاش إسماعيل في منفاه في نابولي، وتفشت في جسده الأمراض الناتجة عن الحزن والأسى، ومن بينها سرطان عضال.

مات الخديوي إسماعيل عام 1895 بعد سنوات قضاها في التمني بالموت، وعندما عاد جثمانه ليدفن في القاهرة، تجاهل الشعب المصري جنازته، فكانت تلك هي النهاية البائسة التي تليق بحاكم مستبد يطلق العنان لشهواته ونزواته ويغرق بلاده في الديون.

تبقى قصة إسماعيل والإمبراطور نابليون الثالث وأوجيني عبرة بليغة تجسد أهمية الديمقراطية في تحقيق الحكم الرشيد، وحماية الدول من التدهور والانهيار.

لذلك فإنّ الدول التي تتطلع إلى بناء مستقبل مشرق ومزدهر، لا بدّ أن تقرأ تاريخها بعمق وتمعن، وتستخلص منه أسباب الهزائم والإخفاقات والفقر، لتتمكن من تجنبها وتجاوزها.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة